طفله السيارة

طفله السيارة

في صباح صيفي خانق في مدينة الموصل العراقية وبين أزقة الجانب الأيمن الذي تعافى حديثا من آثار الحرب خرج أحمد وزوجته رقية من بيتهما المتواضع في حي الرفاعي برفقة طفلتهما الصغيرة نور التي لم تكمل عامها الأول بعد. كان اليوم عاديا تماما في ظاهره لكن ما كان ينتظرهم في الطريق لم يكن عاديا على الإطلاق.
توقف أحمد بسيارته كورولا موديل 2005 أمام مجمع محاكم نينوى في قلب المدينة حيث أراد تسليم بعض الأوراق المتعلقة بمعاملة قانونية تخص المنزل. وبينما كان على عجلة من أمره طلب من رقية أن تبقى في السيارة مع نور لكنه ما إن هم بالنزول حتى خطر لها أن ترافقه لتسأل عن أوراق تخص أخاها المعتقل.
فتح باب السيارة وأغلق ولم ينتبه الزوجان إلى أن المفاتيح ما زالت داخل السيارة وأن الأبواب أغلقت تلقائيا والطفلة نور عالقة وحدها في المقعد الخلفي في ظل حرارة وصلت إلى ما فوق 45 درجة مئوية.
الذعر بدأ يتسلل بسرعة. حاول أحمد فتح الباب عبثا وراحت رقية تصرخ من هول المفاجأة وهي تضرب زجاج النافذة بكلتا يديها. الطفلة الصغيرة بدأت تتحرك في مكانها أولا بابتسامة بريئة ثم تدريجيا بدأت تضرب قدميها بعصبية ووجهها يحمر شيئا فشيئا من شدة الحر.
المارة في الشارع لاحظوا الموقف وتجمع العشرات منهم بعضهم اقترح

كسر الزجاج والبعض الآخر راح يركض للبحث عن رجال أمن أو إطفاء. وسط تلك الفوضى كانت كل ثانية تمر أشبه بالعذاب للأبوين والطفلة الصغيرة التي لا تفهم لماذا تترك وحدها تحت الشمس.
على بعد عشرات الأمتار فقط وفي ظل سور المحكمة كانت هناك عربة شرطة عراقية تقف بجانب خمسة مساجين من أصحاب العقوبات الخفيفة يرتدون زيا رماديا ويؤدون خدمة عامة تطوعية بإشراف رجال شرطة من قوة حماية القضاء.
كانوا منهمكين في تنظيف الساحة المجاورة لمبنى المحكمة يجمعون الأوراق ويزيلون الأحجار عندما لفت صراخ رقية انتباههم فتوقفوا فجأة ثم نظروا نحو بعضهم البعض.
أحدهم ويدعى ثائر رجل في نهاية الثلاثينات كانت لديه سابقة في سرقة السيارات حين كان في بغداد. قال لزملائه وهو يمسك بجرف خشبي
أعتقد أني شفت نفس الموقف بعيني قبل هيچ بس وقتها كنا نكسر الزجاج وننهزم. اليوم غير.
ثم استدار إلى الشرطي المكلف بمراقبتهم وقال بهدوء
سيدي تسمحلي أقرب شكل الطفلة رح تختنق وأنا أقدر أفتح الباب بدون ما نكسره.
الشرطي كان مترددا لكنه لمح دموع الأم وتوسل الأب والناس المصدومة حول السيارة فقال
جرب بس على مسؤوليتك ولا تفكر بالهرب لأن الموضوع جدي.
اقترب السجناء الخمسة بثيابهم الرمادية المتربة وعيونهم تترقب. طلب ثائر من أحد المارة

علاقة حديد وفردها بخبرة ثم بدأ بإدخالها من فتحة الباب بينما رفاقه يساعدونه بإزاحة الإطار المطاطي دون كسر.
مرت دقيقة ثم أخرى والطفلة تصرخ داخل السيارة ورقية تكاد تنهار وأحمد يضغط على صدره من الخوف.
ثم فجأة
تك!
انفتح الباب.
في لحظة واحدة ركضت الأم رقية نحو طفلتها بقوة وهي تبكي بحرقة حتى سال الكحل من عينيها. الأب أحمد جلس على الأرض مذهولا وبدأ يلهج بالشكر لكل من حوله وبالأخص إلى هؤلاء الرجال الخمسة.
الناس صفقوا أحدهم بدأ يكبر وآخر راح يمسح على رأس نور والشرطة من جانبها طلبت الإسعاف فورا للاطمئنان على صحة الطفلة.
لكن الأعين كانت كلها على أولئك السجناء الذين لم يتحركوا من مكانهم بعد انتهاء مهمتهم. وقفوا بوقار وابتعدوا خطوة للخلف كأنهم يقولون نحن أدينا ما علينا.
اقترب منهم الضابط وقال لهم
أقسم بالله اليوم سويتوا فعل أكبر من سنين الحبس. اللي سويتوه مو سهل.
رد عليه ثائر
سيدي يمكن رب العالمين رجعني من كل اللي سويته علشان أكون موجود بهاي اللحظة.
وهكذا في لحظة واحدة تحولت نظرة الشارع لهؤلاء الرجال من نظرة شك إلى نظرة احترام لا بل إلى نظرة بطولة.
في زوايا الموصل العتيقة لكل شخص قصة ولكل جدار ذاكرة. أما هؤلاء الخمسة الذين تحولوا من مجرد مساجين خدمة عامة إلى أبطال

لحظة فلكل منهم رواية تستحق أن تروى.
أولهم ثائر الحمداني
في الثلاثينات من عمره كان ميكانيكي سيارات معروف في حي النصر قبل أن يجره الفقر إلى أعمال غير شرعية. تورط في فتح سيارات وسرقتها بمساعدة عصابات خارج الموصل وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.
كان
ثائر في داخله رجلا يحمل من الطيبة أكثر مما يظن الناس لكنه ضاع عندما انهارت ورشته بعد الحرب وأغلق البنك حسابه وطرد من بيته بسبب الديون.
ثانيهم قاسم الجبوري
شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين كانت مشكلته دائما أنه يسير خلف غيره. ولد في حي التنك وعمل حمالا في الأسواق إلى أن استغله أحدهم في نقل معدات مسروقة ودخل السجن وهو لا يفهم حتى التهمة.
الثالث فاضل السعدي
صاحب سوابق في تهريب المواد التموينية المدعومة وبيعها في السوق السوداء. قال للقاضي في أول جلسة ما سرقت رزق أحد بس بعت طحين الدولة لأن بيتي فاضي ما بيه حتى طحين.
ولأنه لم يستخدم العنف صدر عليه حكم مخفف بالسجن لمدة سنة ونصف.
الرابع والخامس الأخوان عادل ووسام الحيالي
شابان من عائلة محافظة تورطا في شجار مسلح دفاعا عن أحد أبناء عمومتهما فحكم عليهما بالسجن 18 شهرا مع الخدمة المجتمعية.
ورغم اختلاف قصصهم جمعهم ذلك اليوم الحار على موقف واحد أظهر فيهم أجمل ما في الإنسان الغريزة

الأولى التي ولدوا بها لكنها

ضاعت في دوامة الحياة
الرحمة.
لم تمض ساعات حتى انتشر الخبر في مواقع التواصل الاجتماعي العراقية. أول من كتب عنه كان صحفيا من الموصل يدعى أحمد الهيتي وكان متواجدا في مجمع المحاكم وقت الحادثة ونشر على صفحته
اليوم شفت بعيني دموع أم تبكي بنتها اللي محبوسة بالسيارة وشفت خمسة سجناء أنقذوها بدون تفكير بدون مقابل فقط لأنهم بشر وعندهم قلب.
انتشر المنشور كالنار في الهشيم. خلال ساعات تداولته آلاف الصفحات وانهالت التعليقات
يا جماعة الخير لا تحكموا على
الناس من الماضي!
كل التقدير لهؤلاء الشباب تستحقون الحرية والمغفرة.
هل يوجد قانون يمنحهم فرصة الإفراج المبكر هذا حقهم.
في المساء استضافت قناة والد الطفلة أحمد وزوجته رقية في بث مباشر. قال الأب أمام الكاميرا
كنت رح أفقد بنتي وأنا أتحمل المسؤولية بس اللي أنقذها مش شرطة ولا دكتور كانوا خمسة ببدلات السجن. مش راح أنساهم ما حييت.
حتى الإعلام الوطني دخل على الخط وتحول الحادث من واقعة محلية إلى قضية عامة تناقشها البرامج الحوارية وتكتب عنها الصحف الكبرى.
وصلت الضجة الإعلامية إلى أروقة وزارة العدل العراقية في بغداد. وعلى غير المتوقع أصدرت الوزارة بيانا رسميا في اليوم الثالث من الحادثة جاء فيه
تتابع الوزارة باهتمام بالغ الحادثة التي وقعت في محافظة نينوى والتي قام فيها عدد من النزلاء بالتدخل الإنساني وإنقاذ حياة طفلة. وسيتم تشكيل

لجنة خاصة لمراجعة ملفات النزلاء الخمسة للنظر في مكافأتهم وتقييم سلوكهم العام.
البيان أحدث تفاعلا أكبر وبدأ نشطاء من الموصل وبغداد والبصرة والبصرة وكركوك يطلقون حملات تطالب بالعفو الجزئي عن هؤلاء السجناء أو إدماجهم في برامج تأهيلية وتوظيفية فورية بعد الإفراج.
حتى مجلس محافظة نينوى أعلن في جلسة له عن اقتراح تكريم رسمي يمنح لهم عند الإفراج وربما إطلاق أسمائهم على حملات توعوية بعنوان
من الخطأ إلى البطولة.
بعد مرور خمسة وأربعين يوما على الحادثة صدر قرار محلي من محكمة نينوى المركزية بناء على توصية وزارة العدل بمنح الإفراج المشروط المبكر للسجناء الخمسة على أن يتابعوا لاحقا ضمن برامج إصلاحية وتأهيلية مجتمعية.
كان اليوم الذي خرجوا فيه مختلفا صباح مشمس لكن هذه المرة لم يكن حارقا كذاك اليوم الذي أنقذوا فيه نور.
وقف أحمد والد الطفلة ينتظرهم عند باب مركز الاحتجاز حاملا باقة ورد ودموع في عينيه وإلى جانبه رقية التي ألبست طفلتها فستانا زهريا مزينا بوردة عند الكتف.
نور كانت تحمل لعبة صغيرة على هيئة سيارة وظلت تلوح بها وهي تضحك.
ثائر خرج أولا وقد نحل جسده من السجن لكن وجهه كان منيرا.
قاسم الذي لم يكن يفهم في السياسة أو القانون ابتسم للمرة الأولى منذ سنتين.
فاضل الذي حرم من أطفاله طوال فترة سجنه بكى وهو يقرأ لافتة رفعها أحد الأطفال كتب عليها
أبطال السجن أنقذوا نور.
أما الأخوان

عادل ووسام فقد فورا مع والد الطفلة الذي قال بصوت مختنق
أنا أبو البنية وإذا أنتم تحتاجون بيت أو شغل هذا رقمي وبيتي مفتوح.
عادت الكاميرات مرة أخرى لكن هذه المرة لم تكن لتوثق مأساة بل لحظة أمل نقية… لحظة يقول فيها المجتمع نعم يمكن أن نغفر.
بمرور الشهور بدأت حياة كل واحد منهم تأخذ مسارا مختلفا
ثائر الحمداني
عاد إلى ورشة سيارات قديمة
كانت مغلقة وأعاد افتتاحها تحت اسم جديد
ورشة نور للخدمة السريعة.
استفاد من تبرعات تلقاها من موصليين وتم توظيفه رسميا ضمن برنامج إصلاح وتأهيل.
وأطلق عليه لاحقا لقب ميكانيكي الإنقاذ.
قاسم الجبوري
التحق بدورة لصيانة الهواتف الذكية عبر جمعية أهلية ثم تم قبوله للعمل في متجر لبيع الإلكترونيات في حي النبي يونس وأصبح مشهورا بين الزبائن بلقب قاسم الطيب.
فاضل السعدي
عاد لعائلته في حي الإصلاح الزراعي وبدأ يعمل سائق أجرة بسيارته القديمة يضع لافتة صغيرة أمام الزجاج تقول
كل دين له وفاء وكل خطأ له تصحيح.
عادل ووسام الحيالي
افتتحا بسطة قهوة متواضعة عند جسر نينوى يكتب فوقها بخط يدوي
ماكو شي أقوى من إنك تكون سبب في بقاء طفلة حية.
تحول مكانهم الصغير إلى ملتقى شبابي يزورهم أناس لا ليشربوا القهوة فقط بل ليسمعوا منهم كيف تغيرت حياتهم من ملف جنائي إلى ذكرى من نور.
بعد مرور عام كامل وفي ذكرى الحادثة أقيم احتفال صغير في قاعة منتدى نينوى الثقافي بعنوان
هم

من أنقذوا نور.
حضره محافظ نينوى وقائد الشرطة ورئيس لجنة حقوق الإنسان وعدد من الشخصيات الاجتماعية.
كانت الطفلة نور قد كبرت قليلا تمشي على قدميها ترتدي فستانا أبيض ووردة حمراء في شعرها.
حين صعد والدها ليلقي كلمته قال أمام الجميع
لما أغلق الباب على بنتي كنت أعتقد أن الحياة أغلقت علينا كل شيء. لكن خمسة وجوه من الظلام فتحوا لنا باب الأمل وفتحوه بيد نظيفة.
صعد ثائر إلى المنصة لم يقل الكثير. فقط قال
أنتم من منحنا فرصة ثانية. شكرا لأنكم لم تعاملونا كأرقام سجنية بل كأرواح تحتاج لمن يصدقها.
وانتهى الاحتفال بصورة جماعية ضمت الطفلة نور والديها والسجناء الخمسة والضباط والصحفي الذي كتب القصة أول مرة.
وفي لحظة خيم فيها الصمت صرخت الطفلة الصغيرة بكلمة واحدة فقط
ثاااائر!
فضجت القاعة بالتصفيق وبكى ثائر لأول مرة علنا.
قصة نور لم تكن قصة طفلة فقط بل قصة مجتمع بأكمله يعيد النظر في معناه الحقيقي للعدالة للغفران وللفرص الثانية.
من زنزانة إلى ورشة ومن بدلة سجن إلى يد تنقذ حياة
أثبتت الموصل في هذا المشهد أنها ليست مدينة أنهكتها الحروب فحسب بل مدينة ما زالت تعرف الشهامة والفزعة وكرامة الإنسان حتى في أحلك اللحظات.
في مدينة مثل الموصل التي مرت بالنار والدخان كادت تبكي من جديد بسبب سيارة مغلقة
لكن خمسة رجال من خلف الأسوار فتحوا بابا… ليس فقط لبنت صغيرة بل لبداية جديدة.
وهكذا…
حين

أغلقت الحياة بابا على طفلة فتحته الإنسانية من الداخل.



0 التعليقات

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Oops!
It seems there is something wrong with your internet connection. Please connect to the internet and start browsing again.